هبوط سلس
بالنسبة للمتطوعين مثل سامي راهيكاينين، فإن بناء الثقة مع المهاجرين الذين يأتون إلى مكان جديد بحثًا عن حياة جديدة أمر بالغ الأهمية. هذه قصته.
كثيراً ما نسمع أننا أصبحنا نعيش في عصر المدن الكبرى، حيث يسكن أكثر من نصف سكان العالم في المناطق الحضرية. ولكن، يمكننا القول أيضاً إن عملية التمدد الحضري السريعة أصبحت اليوم أشبه بقصة مدينتين. فقصة الأولى تروي حكاية الأبراج الشاهقة اللامعة التي تمثل رموزاً للقوة والثروة والتجارة. أما قصة الثانية فتسرد لنا حكاية مدن الصفيح المترامية الأطراف التي أقامها البائسون على نحوٍ عشوائي في مناطق غير آمنة؛ فهي معرّضة للفيضانات والانهيارات الأرضية وانتشار الأوبئة.
تتعايش كلٌ من هاتين المدينتين المختلفتين للغاية في كثير من الأحيان جنباً إلى جنب. ولا تزال تشهد هذه الظاهرة تزايداً كبيراً بينما يستمر الاتساع الهائل للفجوات بين الأغنياء والفقراء في المناطق الحضرية في المدن. فقد تقلّصت الطبقة التي ما بينهما، الطبقة الوسطى، نظراً لركود الأجور وارتفاع تكاليف المعيشة في الوقت الذي لا تزال فئات أسفل الهرم تعاني من الحرمان على نحوٍ متزايد.
وإنّ من الطرق التي يمكن فيها كسر هذه الحلقة المفرغة هي تعزيز ما نطلق عليه اسم “قدرة المجتمعات الحضرية على التكيف”، أي القدرة الأساسية للناس على تجاوز الصدمات غير المتوقعة حتى لا يخسروا المكاسب التي تحققت بشق الأنفس في ميادين الدخل والصحة والإيواء والتعليم عند وقوع الكوارث. وهذه فكرة منطقية بالفعل. غير أنّنا،لا نستطيع معالجة المخاطر ونقاط الضعف المحددة من خلال المشاريع والبرامج فقط، ذلك فيما لو كنا جادين حقاً بخصوص مسألة قدرة المجتمعات الحضرية على التكيف، بل ينبغي علينا أيضاً معالجة الدوافع الأساسية التي تترك الناس فريسة للفقر في المناطق الحضرية.
إن الظروف المعيشية بالنسبة لعدد كبير من الفئات التي تنتمي إلى أسفل الهرم الاجتماعي آخذة بالتحسن فعلاً. فقد تقلصت نسبة الفقر في السنوات الأخيرة مما مكّن الكثيرين من الحصول على التعليم والمياه النظيفة والرعاية الصحية. وأصبحت المنظمات الإنسانية والتنموية في تلك الأثناء أكثر نشاطاً، إذ أخذت تعمل على الحد من المخاطر ونقاط الضعف قبل وقوع الكارثة أو ظهور الوباء. كما أصبحت أكثر تطوراً في ما يتعلق بتشجيع النماذج المستدامة المملوكة محلياً للتنمية والحد من المخاطر. وطوّرت أحياء المدينة الداخلية أو ما يطلق عليها الأحياء الفقيرة أو مدن الصفيح – والتي كثيراً ما يتم التغافل عن حيويتها وقدرتها على الابتكار-من خلال قدراتها الذاتية حلولاً رائدة سواءً بتوفر الدعم الخارجي في بعض الأحيان أو من دونه في أحيانٍ أخرى.
وتكمن المشكلة في أنه رغم إمكانية هذه الحلول المقترحة بناء القدرة على التكيف بالفعل، إلا أنها لا تعالج الاتجاهات الشاملة التي تمكن ظروف انعدام المساواة في الدخل والثروة التي تشكل أسس ضعف المناطق الحضرية، ناهيك عن قدرتها على عكس هذه الاتجاهات. فالناس اليوم يتقاضون أجوراً أعلى بعض الشيء، لكنّ تكاليف المعيشة دائماً إلى ارتفاع: السكن والرعاية الصحية والتعليم والغذاء والماء.
وإذا أخذنا الأسرة الحضرية النمطية ذات الدخل المنخفض بعين الاعتبار، نرى أن هذه الأسرة تنفق اليوم أكثر من أي وقت مضى المزيد من دخلها على السكن، ويذهب جزء كبير أيضاً منه لتأمين الضرورات الأساسية، مثل: الرعاية الصحية والتعليم والتغذية.
وفي ظل هذا الوضع، يغدو الحصول على العنصر الأهم والأكثر قيمة بين الموارد الحضرية، الأرض، أكثر صعوبة بكثير. فمع ارتفاع أسعار الأراضي، تؤثر ضغوط ضرورة البناء على قوانين وأنظمة سلامة البناء وكذلك على حماية الموارد الطبيعية التي تساعد على إنقاذ المدن خلال الكوارث.
فما الذي ينبغي علينا فعله؟
ينبغي على المدن، أولاً، بذل جهد أكبر في توفير السكن الآمن ميسور التكلفة. ويتطلّب هذا إرادة سياسية طويلة الأمد تستند إلى فرضية أن الاستثمار من شأنه أن يمثّل “طفرة تصاعدية” يستفيد منها الجميع. وستوفّر المدن الأموال على المدى الطويل من خلال المخططات الذكية، والاستثمار في المباني المقاومة للزلازل، وتوفير الخدمات الأساسية، مثل: المياه النظيفة وخدمات الصرف الصحي التي ستخفّض في نهاية المطاف من الإنفاق على الرعاية الصحية.
كما ينبغي علينا تحديث وتحسين القوانين التي تحكم كيفية استعداد البلدان والمدن للأزمات وكيفية الاستجابة لها. فقد أصدر الفلبين على سبيل المثال، في عام 2010، قانوناً لإدارة الكوارث الوطنية يقضي بأن تخصص المدن 5 في المائة من دخلها الإجمالي للحد من مخاطر الكوارث. وأحدثت مثل هذه الإصلاحات فارقاً كبيراً بالفعل في العديد من المدن الفلبينية.
وينبغي على المدن تحديث وإنفاذ قوانين وأنظمة البناء. ففي الوقت الذي يتزايد فيه الوعي في ما يخص قوانين البناء، يتأخّر تنفيذ القوانين في العديد من المدن حيث يعيش الملايين في منازل ومبان دون المستوى المطلوب. كما ينبغي على المدن أيضاً أن تحقق توازناً أفضل بين ضغوط التنمية والحفاظ على الموارد الطبيعية التي تحمي المدن من الكوارث الطبيعية المتوقعة.
وأخيراً، ينبغي علينا العمل جميعاً على ضمان تجنّب أكبر العوامل المدمّرة للحلم الحضري – الصراعات في المناطق الحضرية- مهما كلف الأمر. فالسكان المقيون في أتون هذه الحرب الحضرية اليوم يظهرون صموداً لا يصدق في وجه أكثر الصعوبات الشاقة التي لا يمكن تصورها. ويتخذ العديد من عاملي المساعدات الإنسانية خطوات بطولية جبارة لتقديم الدعم لهم. ولكن ما لم تتم إعادة التفكير جذرياً بالطريقة التي تتفاعل فيها الجيوش مع المدن ذات الكثافة السكانية العالية، لا نستطيع خداع أنفسنا باعتقاد أن الحروب في المناطق الحضرية تتماشى مع الصمود الحضري.
ولا تمثل هذه الإجراءات أهدافاً طموحة فحسب، بل أهدافاً شاقة للغاية، ولكنها في النهاية ضرورية وقابلة للتحقيق. فعقب الكوارث الكبرى، تتدفق الأموال وتعلن المجتمعات التعبئة ويقطع السياسيون العهود. وما نحتاجه اليوم هو ذلك الإحساس ذاته بالضرورة الملحة لمنع الكوارث الحضرية وبناء الصمود والقدرة على التكيف، وهو ما يتطلّب الريادة والشجاعة. ولحسن الحظ، يرافق نمو المدن جانبٌ مشرقٌ أيضاً. فقد أصبحت المدن تتمتع بقدرٍ أكبر من القوة والموارد والنفوذ. وحان الوقت للاستفادة من هذا النفوذ لتحقيق مستقبل أكثر مرونة وصموداً لجميع سكان المناطق الحضرية، الأغنياء والفقراء وكافة الفئات الكامنة بينهما.
بقلم: فؤاد بنديمراد
فؤاد بنديميراد، المدير التنفيذي لمبادرة الزلازل والمدن الكبرى وهي مجموعة خاصة للاستشارات العلمية تركز على الحد من مخاطر الكوارث في المناطق الحضرية في المدن الكبرى والمناطق الحضرية سريعة النمو.
بالنسبة للمهاجرين المفقودين في وسط البحر، بعد فرارهم من ويلات الاضطهاد والحروب، تعني هذه الكلمات الثلاث العالم بأسره